تهتم المانيا كثيرا في قياس مواقف دول العالم حيال الوضع في أوكرانيا وتبذل مساعيها الدبلوماسية في حشد هذه المواقف ضد الغزو الروسي وكانت كلمة وزير الخارجية Annalena Baerbock في الجمعية العمومية في الأمم المتحدة تصب في هذا الاتجاه، أيضا حرصها على الإعلان عقب كل لقاء او اتصال مع مسؤول في المنطقة عن موقف دولته المشابه لموقف المانيا في ادانة الغزو الروسي لأوكرانيا.
تكتسب مواقف دول الشرق الأوسط أهمية خاصة في هذا الصراع لدخول قضايا النفط والغاز كعنصر رئيسي في تأثيرات الصراع على الاقتصاد الأوروبي والعالمي، ولذلك فانه من المهم التعرف على نظرة المسؤولين والساسة الالمان الى مواقف دول المنطقة حيال الصراع في أوكرانيا.
يرى المحللين والسياسيين الالمان ان كثير من دول المنطقة يدخل في علاقاتهم مع روسيا قضايا وملفات شديدة الأهمية مثل قضايا النفط والغاز والقضايا الأمنية تجعل ادانة الغزو الروسي بشكل واضح وحاد صعبا على دول المنطقة التي تلعب فيها روسيا دورا مهما خاصة في سوريا وليبيا، ويشار الى تصويت دولة الامارات بالامتناع على قرار مجلس الامن حول ادانة الغزو الروسي كمثال على محاولة اخذ الحيطة والحذر في اتخاذ مواقف حادة ضد روسيا.
كما ان حالة عدم اليقين التي كانت واضحة للأوروبيين وللألمان بالنسبة لدول المنطقة قبيل التصويت على قرار الإدانة من الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أكد على التردد في اتخاذ موقف لهذه الدول برغم علاقاتهم القوية والمميزة مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الامريكية.
مثل قرار الجمعية العمومية مقياسا لمواقف الدول حيال الغزو الروسي وبالتالي مقياسا للاصطفاف ومدى إمكانية الضغط لتغيير المواقف، ورصدت المانيا ان من بين 191 دولة صوتت على القرار كان التصويت لصالحة من 141 دولة و35 امتنعت عن التصويت بينما صوتت خمسة دول ضد القرار، وهنا تظهر من دول المنطقة سوريا التي صوتت ضد القرار لأسباب واضحة وامتناع العراق وايران وتغيب المغرب، وحرصت المغرب ومصر وبعض دول المنطقة على اصدار بيانات مباشرة توضح موقفها وتشدد على أهمية عدم التصعيد وضرورة انهاء الصراع بطرق دبلوماسية في محاولة على الحفاظ على شيء من التوازن.
يرصد الألمان بوضوح حالة التردد لدى دول المنطقة، ويفسروها برغبة هذه الدول في الحفاظ على التوازن بين عملاقين عالميين، ومحاولة الحفاظ على المصالح مع هاذين العملاقين، وتشير الباحثة دينا اسفندياري من مجموعة الازمات الدولية ان قيام الامارات بالامتناع عن التصويت في جلسة مجلس الامن هي خير مثال على محاولة دول المنطقة الحفاظ على التوازن من ناحية ومن ناحية أخرى ترسل هذه الدول رسالة الى الولايات المتحدة الامريكية تعبر فيها عن الاستياء من السلوك الأمريكي في إدارة العلاقات مع هذه الدول في إدارة الرئيس جو بايدن، ومن المهم ان نضيف الى كلام الباحثة ما يتداول على نطاق واسع في الاعلام الأمريكي بقيام قادة السعودية والامارات بعدم الرد على تواصل الرئيس الأمريكي، ومؤشرات الخلاف بين بعض دول المنطقة وامريكا تتراكم منذ فترة.
من ضمن المؤشرات التي رصدتها المانيا وأوروبا هو التصويت الروسي بعدم الرفض على قرار مجلس الامن الأخير بخصوص وصف الجماعة الحوثية في اليمن كجماعة إرهابية، وهو القرار الذي عملت الامارات باهتمام شديد على تمريره، وكان رد الفعل الأمريكي حيال القلق الأمني الاماراتي من الهجمات الحوثية دون المستوى الذي أملت فيه الامارات، وكل هذا أدى الى امتناع الامارات في مجلس الامن عن التصويت لصالح قرار ادانة الغزو الروسي.
الجدير بالذكر ان مواقف دول المنطقة كانت تحاول ان تتجه بصورة أكبر نحو الحياد والامتناع، وهناك ضغط امريكي واضح ومعروف بذل لتغيير هذه المواقف وهو ما دفع العديد منها لإصدار بيانات التوضيح، الا ان هذا الضغط في حد ذاته مؤشر مهم على مواقف هذه الدول، وهو الامر الذي كان مفاجئ لألمانيا وأوروبا، فلم يكن في اعتبارهم ان دول المنطقة ستحتاج الى ضغوطات من أمريكا للاصطفاف مع المعسكر الغربي، وبرغم ان التصويت في النهاية كان لصالح القرار الا ان الغرب وألمانيا رصدوا بوضوح موقف هذه الدول الذي يميل الى الحياد.
يجادل الخبراء الالمان بأن هذا التوازن مستمر منذ بعض الوقت في الشرق الأوسط ويرجع ذلك إلى التحول البطيء للولايات المتحدة بعيدًا عن المنطقة، والذي بدأ في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما. أدركت دول الشرق الأوسط أنها بحاجة إلى مجموعة صداقة أكبر للسياسة الخارجية، ويفسر بعض هؤلاء الخبراء مواقف دول المنطقة إنهم لا يريدون أن يتعرضوا للضغط لاختيار أحد الجانبين وبالتالي الاختيار بين شراكتهم التاريخية مع الولايات المتحدة وعلاقاتهم الاقتصادية والسياسية المتنامية مع روسيا.
تتداخل المصالح والسياسات الروسية في المنطقة في ثلاث محاور رئيسية
- الأمن: من خلال تواجدها القوي في سوريا وتأثير ذلك على الأمن في المنطقة وامن دول مثل الأردن وإسرائيل بشكل مباشر، كما تلعب ادوارا مهمة في ليبيا التي تؤثر على امن شمال افريقيا كاملا، بالإضافة الى علاقتها القوية والمؤثرة مع إيران.
- التجارة: حيث تستورد دول عربية كثيرة القمح الروسي خاصة الجزائر وتونس وليبيا ومصر ولبنان كما تمثل الامارات مركزا ماليا مهما لرجال الاعمال الروس
- الطاقة: تتداخل المصالح في مجال الطاقة بصورة كبيرة مع دول المنطقة وخاصة بانضمام روسيا الى أوبك+ والتي تربط روسيا بمصالح كبيرة مع دول مثل السعودية والامارات.
في الأخير فإنه وبغض النظر عن سلامة وصحة مواقف دول المنطقة حيال الصراع في أوكرانيا، الا ان محاولة البقاء على الحياد واضحة لألمانيا وأوروبا، بل وتجاوز ذلك أحيانا بإرسال إشارات استياء للشريك الأمريكي، وفي الوقت الذي قالت وزيرة الخارجية الألمانية انه وفي صراع أوكرانيا فان الامن الأوروبي على المحك وبأن الوقوف على الحياد هو وقوف مع الظالم، الا ان هناك هامش كبير للتفهم والتفاهم خاصة في ظل محاولة المانيا نفسها لتخفيض حدة الصراع ومحاولة تحييد بعض الجوانب خاصة الطاقة من اثار الصراع.

